سورة مريم - تفسير تفسير الشعراوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (مريم)


        


{قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا(4)}
هذا هو النداء، أو الدعاء الذي دعا به زكريا عليه السلام: {رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي} [مريم: 4] ويرد في الدعاء أن نقول: يا رب. أو نقول: يا الله، فقال زكريا(رب) أي: يا رب؛ لأنه يدعو بأمر يتعلق بعطاء الربوبية الذي يشمل المؤمن والكافر، إنه يطلب الولد، وهذا أمر يتعلق ببنية الحياة وصلاحها للإنجاب، وهذه من عطاء الرب سبحانه وتعالى، وإن كانت العلقة في طلب الولد إلهية، وهي أنْ يحمل المنهج من بعد أبيه.
فكأن زكريا عليه السلام دعا ربه: يا ربّ يا مَنْ تعطي مَنْ آمن بك، وتعطي مَنْ كفر، يا مَنْ تعطي مَنْ أطاع، وتعطي مَنْ عصى، حاشاك أن تمنع عطاءك عمَّن أطاعك ويدعو الناس إلى طاعتك.
أما الدعاء بالله ففي أمور العبادة والتكليف.
ثم يُقدِّم زكريا عليه السلام حيثيات هذا المطلب: {رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي} [مريم: 4] والوَهَن هو الضعف، وقال: {وَهَنَ العظم} [مريم: 4] لأن لكل شيء قواماً في الصلابة والقوة، فمثلاً الماء له قوام معروف والدُّهْن له قوام، واللحم له قوام، والعصب والعظم وكل عناصر تكوين الإنسان، والعَظْم هو أقوى هذه الأشياء، والعَظْم في بناء الجسم البشري مثل(الشاسيه) في لغة العصر الحديث، وعلى العظم يبنى جسم الإنسان من لحم ودم وعصب، فإذا أصاب العظام وهي أقوى العناصر ضعفٌ ووهنٌ فغيرها من باب أَوْلى.
لذلك، فإن الرجل العربي حينما شكا الجدب والقحط ماذا قال؟ قال: مرَّتْ بنا سنون صعبة: فَسنة أذابتْ الشحم أي: بعد الجوع وعدم الطعام وسنة أذهبت اللحم أي: بعد أن أنهت الشحم وسنة محَّت العظم.
فكأن العَظْم هو آخر مخزن من مخازن القوت في جسم الإنسان ساعة أن ينقطع عنه الطعام والشراب. والعظم في هذه الحالة يُوجِّه غذاءه للمخ خاصة؛ لأنه ما دام في المخ بقية قبول حياة فما حدث للجسم من تلف قابل للإصلاح والعودة إلى طبيعته، إذن: فسلامة الإنسان مرتبطة بسلامة المخ.
لذلك نجد الأطباء في الحالات الحرجة يُركِّزون اهتمامهم على سلامة المخ، ويرتبون عليه حياة الإنسان أو موته، حتى إن توقف القلب فيمكنهم بالتدليك إعادته إلى حالته الطبيعية، أما إنْ توقف المخ فهذا يعني الموت.
فكأن نبي الله زكريا عليه السلام يقول: يا رب ضعف عظمي، ولم يَعُدْ لديَّ إلا المصدر الأخير لاستقباء الحياة.
ولما كان العظم شيئاً باطناً مدفوناً تحت الجلد، فهوحيثية باطنة، فأراد زكريا عليه السلام أنْ يأتيَ بحيثية أخرى ظاهرة بينة، فأتى بأمر واضح: {واشتعل الرأس شَيْباً} [مريم: 4] فشبّه انتشار الشيب في رَأْسه باشتعال النار، فالشعر الأبيض الذي يعلوه واضح كالنار.
والمتأمل في هذا التشبيه يجد أن النار أيضاً تتغذى على الحطب وتظل مشتعلة لها لهب يعلو طالما في الحطب الحيوية النباتية التي تمد النار، فإذا ما انتهتْ هذه الحيوية النباتية في الحطب أخذت النار في التضاؤل، حتى تصير جَذْوة لا لَهبَ لها ثم تنطفىء.
واشتعال الرأس بالشيب أيضاً دليل على ضعف الجسم ووَهَن قُوته؛ لأن الشعر يكتسب لونه من مادة مُلوّنة سوداء أو حمراء أو صفراء توجد في بُصَيْلة الشعرة، وتُمد الشعرة بهذا اللون، وضعْفُ الجسم يُضعِف هذه المادة تدريجياً، حتى تختفي، وبالتالي تخرج الشعرة بيضاء، والبياض ليس لوناً، إنما البياض عدم اللون نتيجة ضَعْف الجسم وضَعْف الغُدَد التي تفرز هذا اللون.
لذلك، نجد المترفين الذين يعنون كثيراً بشعرهم ويضعُون عليه المواد المختلفة أول ما يظهر الشيب عندهم تبيض سوالفهم؛ لأن السوالف عادة بعد أنْ يُهذِّبها الحلاق تأخذ أكبر قدر من المواد الكاوية التي تؤثر على بُصيْلات الشعر وعلى هذه المادة الملونة، والشعرة مثل الأنبوبة يسهل توصيل هذه المواد منها خاصة بعد الحلاقة مباشرة وما تزال الشعرة مفتوحة.
ثم يقول: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً} [مريم: 4] أي: لم أكُنْ فيما مضى بسبب دعائي لك شقياً؛ لأني مُستجَابُ الدعوة عندك، فكما أكرمتني سابقاً بالإجابة فلم أكُنْ شقياً بدعائك، بل كنتُ سعيداً بالإجابة، فلا تُخلِف عادتك معي هذه المرة، واجعلني سعيداً بأنْ تُجيبني، خاصة وأن طلبي منك طاعة لك، فأنا لا أريد أنْ أخرج من الدنيا إلاَّ وأنا مطمئن على مَنْ يحمل المنهج، ويقوم بهذه المهمة من بعدي.
وأنت قد تدعو الله لأمر تحبه، فإذا لم يأْتِ ما تحبه ولم تحب حزنت وكأنك شقيت بدعائك، وقد يكون شقاءَ كذب، لأنك لا تدري الحكمة من المنع وعدم الإجابة، لا تدري أن الله تعالى يتحكم في تصرفاتك.
وربما دعوْت بأمر تراه الخير من وجهة نظرك وفي علم الله أنه لا خَيْرَ لك فيه، فمنعه عنك وعدَّل لك ما أخطأتَ فيه من تقدير الخير، فأعطاك ربك من حيث ترى أنه منعك، وأحسن إليك من حيث ترى أنه حرمك، لأنك طلبتَ الخير من حيث تعلم أنت أنه خير ومنع الله من حيث يعلم أن الخير ليس في ذلك.
ثم يذكر زكريا عليه السلام عِلَّة أخرى هي علة العِلَل ولُبّ هذه المسألة، فيقول: {وَإِنِّي خِفْتُ الموالي}


{وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا(5)}
(الموَالِي) من الولاء، وهم أقاربه من أبناء عمومته، فهم الجيل الثاني الذي سيأتي بعده، ويخاف أنْ يحملوا المنهج ودين الله من بعده؛ لأنه رأى من سلوكياتهم في الحياة عدم أهليتهم لحمْل هذه المهمة.
{مِن وَرَآئِي} [مريم: 5] سبق أن أوضحنا في سورة(الكهف) أن كلمة وراء تأتي بمعنى: خلف، أو أمام، أو بعد، أو غير. وهنا جاءت بمعنى: من بعدي.
ثم يقول: {وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً} [مريم: 5] والعاقر هي التي لا تلد بطبيعتها بداية، أو صارت عاقراً بسبب بلوغها سِنَّ اليأس مثلاً. ونحن نعلم أن التكاثر والإنجاب في الجنس البشري ينشأ من رجل وامرأة، وقد سبق أنْ وصفَ زكريا حاله من الضعف والكبر، ثم يخبر عن زوجته بأنها عاقرٌ لا تلد، إذن: فأسباب الإنجاب جميعها مُعطلَّة.
وقوله: {وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً} [مريم: 5] أي: هي بطبيعتها عاقر، وهذا أمر مصاحب لها ليس طارئاً عليها، فلم يسبق لها الإنجاب قبل ذلك.
ثم يقول: {فَهَبْ لِي} [مريم: 5] والهِبَة هي العطاء بلا مقابل، فالأسباب هنا مُعطَّلة، والمقدمات تقول: لا يوجد إنجاب؛ لذلك لم يقُلْ مثلاً: أعطني؛ لأن العطاء قد يكون عن مقابل، أما في هذه الحالة فالعطاء بلا مقابل وبلا مقدمات، فكأنه قال: يارب إنْ كنتَ ستعطيني الولد فهو هِبَة منك لا أملك أسبابها؛ لذلك قال في آية أخرى عن إبراهيم عليه السلام: {الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [إبراهيم: 39].
ولنا وَقْفة ومَلْحظ في قوله تعالى: {عَلَى الكبر} [إبراهيم: 39] حيث قال المفسرون:(على) هنا بمعنى(مع) و(على) ثلاثة أحرف و(مع) حرفان، فلماذا عدل الحق تبارك وتعالى عن الخفيف إلى الثقيل؟ لابد أن وراء هذه اللفظ إضافةً جديدة، وهي أن(مع) تفيد المعية فقط، أما(على) فتفيد المعية والاستعلاء، فكأنه قال: إن الكِبَر يا رب يقتضي ألاَّ يوجد الولد، لكن طلاقة قدرتك أعلى من الكِبَر.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ} [الرعد: 6] كأن الظلم يقتضي أن يُعاقبوا، لكن رحمة الله بهم ومغفرته لهم عَلَتْ على استحقاق العقاب.
وقوله: {مِن لَّدُنْكَ} [مريم: 5] أي: من عندك أنت لا بالأسباب(وَلِياً) أي: ولداً صالحاً يليني في حَمْل أمانة تبليغ منهجك إلى الناس لِتسْلَم لهم حركة الحياة.
ثم يقول: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ}


{يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا(6)}
سبق أن أوضحنا أن الميراث هنا لا يُراد به ميراث المال؛ لأن الأنبياء لا يورثون، وما تركوه من مال فهو صدقة من بعدهم، إنما المراد هنا ميراث العلم والنبوة والملْك، وحَمْل منهج الله إلى الناس، ونلحظ أنه لم يكتَفِ بقوله(يَرِثُنِي) بل قال: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم: 6] فلستُ أنا القمة في الطاعة في آل يعقوب، فهناك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، وهذا تواضع منه ومراعاة لأقدار الرجال وإنزالهم منازلهم.
وقوله: {واجعله رَبِّ رَضِيّاً} [مريم: 6] أي: مرضياً عنه منك.
ثم يقول الحق سبحانه: {يازكريآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ}

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8